الاثنين، 20 أغسطس 2018

حساسيات الصعلوك ــ المتصوف ــ الثائر .. ( قراءة نقدية في ديوان خطني أيها الحبر للشاعر المغربي عبدالعاطي جميل )




بقلم : محمد نور الدين بن خديجة





-1- بدء على سبيل التعريف  :
----------------------------------------------------------

        " خطني أيها الحبر .." المجموعة الشعرية الثالثة للشاعر المغربي عبد العاطي جميل .. ملحقة بعنوان هامشي :" أعشق عينيك لأنها تكره صور الطغاة .."..هذا الهامش الذي يحتفي به الشاعر حساسية إبداعية وموقفا فلسفيا وإنسانيا ..فالحقيقة أو على الأقل جزؤها المقصي الذي يكمل وجه العملة ويوضح الصورة يكمن في " المهمش" و "المنبوذ" و"المنفي" و "المصادر" ..إلخ ...
-هذا الالتزام أو الاصطفاف مثل خيارا أصيلا للشاعر لم يتزحزح عنه قيد أنملة رغم إغراءات "الرسمي" وعناوينه المبهرة ..وبالتالي فالإهداء الذي تضمنه الديوان يعلن هذا الانتماء وينحاز إليه .
        الشاعر "عبد العاطي جميل" يحاول في تجربته الشعرية أن يشتغل وفق مشاريع عمل تخرج التجربة من فرديتها وتقحمها في حوار مع أطراف أخرى تقترب من حساسيتها وفق رؤى دالة في عمقها على اختيارات الشاعر المبدئية ..فتجربة المجاميع الشعرية ابتدأت لدى الشاعر مع تجربة "كراريس تيزي للتداول الشعري " في أواخر تسعينيات القرن الماضي .. وهي تجربة اشتغلت على الهامش من " المؤسسات الرسمية الثقافية" حيث اختارت طريقة المستنسخات أو الكراسات .. وهي ظاهرة إبداعية عرفت انطلاقتها مع "الغارة الشعرية" لعدنان ياسين وسعد سرحان وغيرها من التجارب ك" مكائد شعرية" لعبدالغني فوزي ومهدي حلباس وعبدالله المتقي و" المركب الشعري " لابراهيم قازو وعبدالعاطي الخازن ونور الدين بن خديجة وجماعة " دبوس" لمحمد حدو وغيرها . وعبر كراريس "تيزي" أصدر الشاعر مجموعة " مسودات شعرية" .. ومفهوم المسودة هو مفهوم يحيل إلى اللا اكتمال والقابل للتعديل والتنقيح .. فالشاعر يرفض أي صيغة تحيل للكمال .. فالذات وكذا القصيدة في تحول دائم وبالتالي لا مجال للحديث عن أمير شعر أو ملكه أو إمبراطوره .. ولكن عن تمايزات وحساسيات تؤسس لتجاربها ورؤاها الخاصة . بعد المسودات ستصدر منشورات " أفروديت" عددا خاصا عن الشاعر سنة 2001 في أول عدد لها .. والتي يشرف عليها كل من الشاعر أحمد بلحاج أيت وارهام والشاعرة نجاة الزباير . والعدد احتفاء بشاعر المسودات بقلم الشاعرة والناقدة نجاة الزباير تحت عنوان : بوابات منفتحة الأشداق ، قراءة في مسودات الشاعر بالإضافة إلى حضور قصائده ( 12 مسودة شعرية ) ...
       المجموعة الثانية صدرت بتشارك مع الشاعر محمد بلمو تحت عنوان " حماقات السلمون" سنة 2007 .. وهي تجربة تحتفي بالعمل المشترك .. والقصائد تتتالى دون تذييل لاسم الشاعرين .. لكنها مرتبطة بخيط رفيع يوحد رؤاها وحساسيتها دون نشاز وتصنع وتعمد لاختلاق المماثلة .
      التجربة الثالثة وهي محور هاته الدراسة المتواضعة وهي مجموعة " خطني أيها الحبر "الصادرة سنة 2014 .. وهي كذلك عمل مشترك مع الخطاط والتشكيلي " لحسن الفرساوي" ..فتخطيطات "الفرساوي" في حد ذاتها لا يمكن فصلها عن بنية القصائد .. بل تتطلب لوحدها قراءة متمعنة في الأشكال التي أبدعها الفنان ضمن الديوان .
المجموعة كلها كتبت خطا حروفيا لا مطبعيا .. كما أنه على مستوى الإخراج الفني حاول الفنانان أن يحيلا على فنية توضيب " الكنانيش " و المجلدات" التزاما بالورق الأصفر أو المائل للصفرة .. كما أن الغلاف يحيل في لونه لمادة " الصمغ" أو " الصلصال المادة التي كانت معتمدة قبل الطباعة والحبر الجاف .

-2- في دلالة العنوان :
 
--------------------------------

       عنوان المجموعة في حد ذاته إحالة لمتضمن القصائد ولحساسية الشاعر وخياراته الوجودية .." خطني أيها الحبر .." فالأمر موجه للحبر في فعل الكتابة لا الشاعر .. وهنا الشاعر يهدم كل تلك العلاقات السلطوية أو التراتبية وبالتالي تصبح العلاقة مع الكون والأشياء علاقة تفاعل إن لم نقل أو نحيل إلى علاقة "حلول صوفي" ..فليس الشاعر من يخط القصائد بل الحبر من يخط الشاعر قصائد وحروف على صفحة الوجود .. هذا يمكن أن يحيلنا إلى دلالة " القلم/الحبر /الحرف " عند الصوفية .. فالمنجز الأهم والخطير عند التصوف الثوري هو كسر " الوساطة البشرية" تلك الوساطة التي أسست لسلطة الدولة وسلطة الفقهاء رجال الدين بل وحتى السلطة الأدبية واللغوية .
       هذه الرغبة وهاته الإرادة في هدم هذه الوسائط /المؤسسات/ السلط ..هي التي ترجمت عبر التكامل والتحاور الذي أحدثته المجسمات الخطية والكاليغرافية للفنان لحسن الفرساوي والتي لا يمكن قراءة أشعار عبد العاطي جميل دون قراءتها .
هذه الإحالة الصوفية بارزة من خلال المقروء -المنطوق: " الرؤيا خروج .. وكل خروج يسبقه دخول من دواة الشوق إلى ورق أرقه صمت بياض .."..." الحبر أثمن سائل بعد القذف .. والكتابة قذف ثان في رحم الوجود .." . فالحياة لا تستوي فقط باستمرار التناسل البشري بل كذلك بتناسل الكتابة . إن الاستمرار الإنساني ما كان ليحدث دون " الكتابة /اللغة ..." وإن لحظة الكتابة هي لحظة "المعرفة ".. معرفة الذات والكون وعلاقة الانسجام والتنافر التي تربطهما وهي التي توجت بلعنة " المعرفة .. أو تفاحة آدم " أو الطرد من الفردوس إلى قلق الوجود السرمدي .
        إن إحالة " التصوف" عند الشاعر ليست ارتدادا سلفيا أو " موجة شعرية " كما اتخذها البعض استنساخا ومطية في مسار اختناق وتأزم قصيدة " الحداثة الشعرية العربية" ..بل إنها ذات منحى تحرري وتثويري كما يتجلى من خلال القصائد/المسودات .

-3- الذات الشاعرة : المختلف / المنشق عن القطيع .
-------------------------------------------------------------------------------------

         الذات الشاعرة ذات تحتفي بالاختلاف .. تقف مع النسبي ضد المطلق ..مع التعدد ضد الفكر الأحادي والشمولي ..
" إن كنت ضدي
أنت معي
فأنا تتعشقني الأضداد ." .
        الذات الشاعرة لا توهم ببطولة وهمية خارقة أو "تفرد وكمال أخلاقي " ..الذات هنا إشكالية ذات بعد تراجيدي لا يستهدف تطهيرا أخلاقيا للمتلقي بقدر ما يرتجي تلقيا قلقا دائم التساؤل رافضا للسكونية والثنائيات المتعارف عليها ك خير /شر ..أسود /أبيض . ذات تصرح وتبوح بانكسارها دون يأس :
" أنا الإناء
يشرب بي الوقت أعياده
ينحت طقوسه
يرمي بي على حافة لياليه
أنكسر ." .
        ذات تعلي راية الهامش والغريب والمنفي كما ورد في الحديث النبوي : طوبى للغرباء.." . فالهامش يحاكم المركز يخلخل كل المواضعات التي تأسس عليها ويعيد طرح الأسئلة الشائكة المشروعة الشكاكة حول " الهيمنة" و" الشرعية " :
" أنا الهامش
أبحث في متنك
عن سطر أختبئ فيه
أتدرب على رفض لا أتقنه
كلما دعتني هذي الكلمات ." .
        هنا تتناسل كل الدلالات التي تتولد عنها دلالات متعددة مابين التقابل اللفظي والدلالي : الهامش/المتن - المتن/ السطر ...
       الذات المنشقة على قيم القطيع وقوانينه .. وعلى ثقافة التنميط والاستتباع والإلحاق .. هي ذات تجد مرجعيتها في المتن الشعري العربي الرافض والمصنف على هامش الشعرية العربية التقليدية .. شعراء الصعاليك مثلا :
" وأنا الآن كما الشنفرى
أستدير إلى الوراء
إلى سواي أميل ..." .
        بل يتجاوز تمرد الصعلوك على مؤسسة القبيلة على تمرد الشاعر على ذاته : " إلى سواي أميل .." .
عن ذاتية المنشق أو المنبوذ هي وليدة هذا القلق الدائم الذي يحاكم ويسائل " المؤسسة " بل ويرفض كل استقرارية وسكونية " للذات" ..والشعر الحقيقي لا يؤمن بالسكونية وبالتالي لا يؤمن بقيم المدح والفخر فهو على النقيض من صفات الكمال ...إلخ ...:
" أراني قطعة خبز شارد
على هامش الطوار
قد تتلقفني أصابع جائع
تقذفني أقدام ضائع ..."
أو حين يقول : " كغيلم أحمل شعري
أتوغل في غابة لا تقرأ ..." .
الغيلم إحالة لبطئ السعي و " الغابة " إحالة هنا لغرابة ووحشة المسعى ... البطء في السعي مقابل وحشة الغابة وما تحبل به من مخيف ومدهش .. وتزيد الغرابة شدة بهوية الذات الشاعرة في غابة لا تقرأ .
أو حين يقول :
 " لكأني فرس النهر
ملقى في صحراء
لا واحة توحي لي بالماء .." .
  ..الذات التي تعيش وترجو الخصب مقابل المحيط المتصحر الجاف . وتتأصل الغرابة والاغتراب في العلاقة مع المحيط المتوطن : " أراني بسيطا كقطرة ماء
في صحراء جاحدة
أو عفيفا
كقطرة دواء في عين رامدة
فلماذا ترونني ريحا جاحدة ؟ ..."
كذلك في: " أنا الرحى
كل خلايا الغضب
في جسدي تتجدد ..." ..
  ليختتم الشاعر مسك كلامه ويوضح الصورة أكثر :
 " سأظل غريبا
مادمت أركب بمزاجي
أحيا بلا جواز
طريدا بلا راحلة كالنشاز .." .
       فالشاعر لا يمتلك أمام محيط جاحد متصحر يرفض المختلف سوى أن يعلي راية العصيان بكل ما أوتي من أسلحة المخالف والناشز ضدا على سمفونية القطيع السلطوي .

-4- القصيدة : المسودة مقابل القصيدة / النقصان مقابل الكمال/ القلق مقابل الطمأنينة ..
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

        تجيء كالوشوشة .. بوهيمية الملامح والشكل ..منحازة للحزن البليغ هي القصيدة :
  " حينما فتحت قلبي هذا المساء
وجدتها تجوب شواطئ حزني شريدة
تكتب على رمال الذكرى
كلمة وحيدة
وحين سألت كنيتها
من أنت ؟
قالت بكل غنج : أنا القصيدة .."
      .. إن حال الشاعر في استعارته البليغة يأخذ هنا شكل البحر وشطآنه .. والقصيدة مجرد كنية من كنياتها المتعددة .. فهي لا تحصر في قالب .. ولا تختصر في تصنيف أو حالة ..وبالتالي لا يمكن حصرها في اسم " قصيدة " بل في كنيات متعددة حسب كل حالة أو موقف .. وهي تلتزم الصوت الخافت " الوشوشة" وليست " صراخا أو شعارات وجعجعات.
-من حالاتها كذلك " التمنع" فهي ليست سهلة القياد شبيهة بشاعرها ..ألم يقل الشاعر العراقي " آدم حاتم " : " قصائدي خيول برية ولن أدخلها الإسطبل ..." :
* ودعتني
ثم دعتني إليها فلم أجب
ولما حبوت إليها .. لم أصب
فكان التمنع منها ومني
بينها وبيني كون من الحجب
ما أتعسني .. ما أتعسني
حين تدعوني القصيدة
فلا تجدني .."
     . .. التمنع من حالات الإباء والأنفة وعد استسهال العواطف والمشاعر وعدم استرخاص الذات والحواس .. فلحظة القصيدة /الشاعر هي لحظة انوجاد وانخطاف صوفي لا مجال فيها لأنصاف حلول وأنصاف مواقف .. فإما أن تكون أو لا تكون .
- ومن كنياتها كذلك أو من صفاها المشبهة " الماء" :
 " يجيئني الماء كل ليلة
فينقر حلمي الخصيب
أفتح
وأوصد خلفه نوافذ الحروف ..." ... الماء رمز خصب وعطاء ...
- اللعنة إحدى دوافعها وهوياتها كذلك :
" لعنة الحبر عليك
أخرج إلي
ما بقي من الليل
لا يكفي لكتابة قصيدة ..." .
  بل وأنها تماثل " الأنثى " المشتهاة .. وأنت تقرأ المسودات لا تعرف الحد الفاصل بين القصيدة /الأنثى ..هل يخاطب القصيدة أم الأنثى ؟ ..أو هل يناجي الذات /الأنثى/القصيدة ؟ ..وهنا نستحضر عنصر الحلول في الأشياء والذوات وهدم الحدود والفواصل بين الإنسان والكائنات والأشياء .. فالإنسانية بنت أسوار التمدن والمؤسسات على ذرائعية لغوية وفلسفية وسياسية حيث جعلت الإنسان هو المركز والكائنات لواحق حيث أسست لأنانيتها أطلقت مارد الإتراب من القفص ليتضخم لحظة التحول والتغول الرأسمالي لتحول الأشياء والكائنات والقيم إلى سلعة وبالتالي اللغة والمبادئ إلى مجرد منفعة استهلاكية . والشاعر هنا يستحضر لحظة طفولة الأشياء في علاقتها بطفولة الكائن البشري .. هذه اللحظة الطفولية يتساوى فيها الشاعر/ الصعلوك/ المتصوف/ الثائر .. ولا تستقيم إلا على مذبح الفداء : المسيح /الحسين/ الحلاج/ جيفارا ...أليس الشاعر فدائي في حد ذاته ؟ ...

-5- الأنثى / القصيدة :
---------------------------------------

سبق وأن قلنا إن مناجاة الأنثى في مجموعة " خطني أيها الحبر" تتماهى والقصيدة .. إن بعض حالات القصيدة هي بالطبع حالات الأنثى وللأنثى رمزية دالة في الأدب الصوفي " كل مكان لا يؤنث لا يعول عليه " كما جاء على لسان ابن عربي ..فالعلاقة مع الأنثى تتأسس على أس الاغتراب والانفلات و" الأنثى " هنا لا علاقة لها بتقسيم العمل الطبقي الجنسي في مجتمع الطبقات : رجل /امرأة .. دلالة الأنثى تتجاوز هذا التقسيم ومرتبطة بطفولة العالم وبالبدء الأنثوي للعالم . والاغتراب مرتبط بهذا الصراع المحتدم داخل الذات أصلا " بين " الذكورة والأنوثة "أليس الشعر لحظة أنثوية بامتياز ؟ الشاعرة ".. هذا الاغتراب وحضور الشرط الإنساني الذي تحدث عنه ماركس في علاقة الرجل بالمرأة .. فعلاقة الرجل بالمرأة في المجتمعات الطبقية والتي تأسست على تقسيم العمل البطرياركي هي علاقة رتابة واستعباد وليست علاقة تحرر وتكافؤ ومؤسسة الأسرة هي وليدة هذا المجتمع الطبقي ..وبالتالي فحضور الحساسية الأنثوية عند الشاعر أو المتصوف هو هدم وتضاد مع هاته المؤسسة في العمق .. وبالتالي فالأنثى لدى الشاعرة متمردة/ مشاكسة/ مشاغبة /غير منقادة منفلتة تماما كصفات وكنيات القصيدة ..
" لكأنها
في نظراتها السكرى
عربدات عاشقة
كسرت كؤوس الليلة علي .."
... " أستطيع أن أمنحها حق اللجوء
إلي
فوطني الشارد
مثلي مطارد
يحمي الطريد ..."
...
...


-6- حول حساسية التجربة وآفاقها :
----------------------------------------------------

  إن المجموعة الشعرية جديرة بقراءة أعمق .. ففي الاستعارات والانزياحات والمجازات تكمن الفلسفة وعمق الرؤيا وتترصد القارئ بانسيابية وجمالية فتنة .. فكيف لأفلاطون أن يطرد الشعراء من جمهوريته الفاضلة .. واستلهاما لفلسفة النقصان والاختلاف فالشعراء لا يطمعون في تلك الجمهورية الفاضلة المزعومة .
- المجموعة كذلك تتطلب وقفة وموقفا دالا على ضفاف " موقف الحرف" كما نجده في كاليغرافية الفنان البديع " لحسن الفرساوي" ..هذا الفنان الذي أبدع بعيدا عن الزخرف الكلاسيكي وحلق بالحرف نحو ضفاف التعبيرية والسوريالية أحيانا ..فالملاحظة العامة على ما أثثه الفرساوي على ظهر الديوان أو ما حاور به الشاعر أنه جعل لحروفه شكل مجسمات متماوجة ثائرة ومنسابة غير متصلبة دون أن تفقد جمالية الخط العربي . إن هذا التماوج والانسيابية والثورة قرينة بوح الشاعر في قلقه الوجودي ..قلق يتراوح بين النبذ والرفض والحلول والتماهي .
- لازال للشعرية العربية الحديثة ما تبدعه من آفاق للتجاوز والجدة والتثوير شريطة الالتزام بشرطها الإنساني وبواقعها العياني وبتراثها الإبداعي القلق والتجاوزي دون أن تسقط تحت براثن الأزمة التي سقطت فيها بعض الكتابات الشعرية الموغرة في الإبهام والغموض الفاقدة لهويتها ..الزاعقة بكل تنظيرات هزيمة العقل العربي من ما يروج له من قصيدة البياض والفراغ وهلم جرا ...
 " خطني أيها الحبر" عودة إلى حبر البدء ..إلى طفولة الدهشة والسؤال وبراءة الثائر الواعية بخيارها والمناضلة والمقاتلة ولما لا ؟ .." فكل ثوري طيب هو ثوري ميت" كما يقال ...





الأربعاء، 27 يونيو 2018

ليل مالك الحزين












*شعر : صلاح الدين بشر 



يا أيها الليل الصامت
تطرق برأسك
بمحاذاة غيمات
شاردة
تخمن منتهى السفر
وخطواتك غارقة
في حلكة بحرك
المدجج
بسيوف ظلمة
صائلة
ونجومك الهاربة
من مناجل الحصاد
تستكين إلى كهف روحك
الباكية
وعيونك اللاهية
بهسيس الدمع تركبه
كفلك تائه
في دياجير الأشباح
الراقصة...

°°°°°°

يا أيها الليل الصامت
تحدجني
بنظرات منك
ترعبني
تشع حمما قانية
من جروح مدينتي
الفانية
جمراتها حشود أموات
سادرة
في أجداث
نافرة
ترسم نهرا من براكين
دروب دامعة
من مزن الهطل الأسود
من فرط شؤم أوزار خراب
عم الأرواح والديارا...

°°°°°°

يا أيها الليل الصامت
تطل على نهرمدينتي
ممتدا بين النار والماء
مشرئبا لمرفإ شاطئ حزين
تحرسه نوارس عمياء
ولا شيء يبين لها سوى
لعنة الأسفار
والإنتظار...

°°°°°°

يا أيها الليل الصامت 
أقطر دما منك
وتنعيني أسراب الغربان
تحرس أسوار المدينة
تدق أجراس الكنائس
تدك أعشاش المدائن
تعيث فسادا في سلام الروح
تقدمني قربانا للذئاب
تفرح نشوانة برقصة 
الديك أنا المذبوح 
في مجزرالرعب والموت...

°°°°°°

"إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى
وأذللت دمعا من خلائقه الكبر"
أضواني ليلك الغمر
يا مدينتي والقفر
والجمر
أقبضه
والخمر أيقظ سكرتي
من غفوتها
وحرقتها
في ظلال النخيل
والموج الهارب
في قوارب الموت
والبوح المستكين
لكحل عيون لا تنام
سادلة أستارها
في سديم هذا الليل البهيم...






---------------------------------------------------------------------------------
شاعر من المغرب * 















الاثنين، 22 يناير 2018

الشاعرة فروغ فروخزاد ، ساحرة صغيرة حزينة ، وحيدة وعاشقة . *








بقلم : شادي راحيناما

ترجمة : ابراهيم قازو 




                    يا حبيبي ! عندما تأتي بقربي ، أحضر لي شعلة و نافذة  (1)




         فروغ فروخزاد ، واحدة من أعظم الشاعرات الإيرانيات المعاصرات ، أحدثت تصدعا في رحم وجودها حتى تتجرأ على وصف إحساسها كامرأة . و الذهاب إلى عكس القوانين التقليدية للمجتمع . فجعلت ، حينئذ ، معاناتها في خدمة الشعر ، المسرح ، و السينما ، حتى يكون الفن  `` نافذة للنظر ، الرقص ، الصراخ ، 
والبكاء``  (2)
        ولدت فرغ فروخزاد بطهران سنة 1934 في أسرة كثيرة الأفراد . و تحت تأثير والدها المهتم كثيرا بالأدب ، وخصوصا الشعر ، اهتمت فروغ باكرا بهذا المجال ، و بدأت تكتب بعض القصائد الصغيرة التي كشفت عن موهبة شعرية جلية . بعد أن أنهت دراساتها ، تدربت على فني التصميم و الرسم . و في سن السادسة عشرة من عمرها ، مغرمة بشغف ، تزوجت پرويز شاپور Parviz Chapour، الذي يكبرها بخمسة عشر سنة . في سنة 1952 ، ظهرت مجموعتها الشعرية الأولى الموسومة بعنوان : الأسيرة ، و عمرها لم يتجاوز سبع عشرة سنة . هذه المجموعة عرفتها على الجمهور . كما نشرت أيضا بعض القصائد في مجلات متعددة . و قد أثارت ضجة إحدى قصائدها التي نشرتها بعنوان : الخطيئة :

اقترفت خطيئةً مليئة بالشهوة ،
 اقترفت خطيئة في حضن دافئ و متوقد .
`` لأول مرة في تاريخنا الأدبي ، تتحدث امرأة عن رغبتها ، و كذلك عن شهواتها``  (3) .

و قد أصبحت بعدها موضوع العديد من المقاربات ، و اتهمت ، على الخصوص ، بأنها فاسقة . في حين كانت حياتها الزوجية تتدهور، لم تكن ولادة ابنها كاميار كافية كي تخلصها من السأم . و من الحزن الذي يغلفها و يشلها . و بعد طلاقها رفضت الحفاظ على ابنها الوحيد ، الذي لم تره حتى موتها .

عندما كانت ثقتي معلقة بحبل العدالة المرن .
و في المدينة كلها يقطعون قلوب أنواري
حينما اغلقوا عيون حبي الطفولية
بعُصابة القانون السوداء
و في أوقات مُتعكِّرة من عيني
ينبجس الدم
و في حياتي
لم يكن هناك شئ ، لا شئ سوى تَكْتَكَة الساعة
لقد فهمت : يجب ، يجب ، يجب
أن أعشق الجنون (4)

      و بموازاة مع الشعر ، اهتمت فروغ بالمسرح و كذلك بالسينما ، فقد أخرجت فيلما وثائقيا بعنوان : البيت أسود ، الذي يعرض الحياة البئيسة لمرضى الجذام .
      لقد كتبت عدة مجاميع شعرية من ضمنها الأسيرة (1952) ، الجدار (1957) ، العصيان (1959) ، ولادة ثانية (1962) ، و أخيرا مجموعة  ``لنؤمن بحلول الفصل البارد ``، التي لم يسمح لها موتها المفاجئ  سنة 1966 ، على إثر حادثة سير مرعبة ، بإكمالها .


الشعر مرآة امرأة


        يمكن تقسيم العمل الشعري لفروغ إلى جزأين مختلفين ، يشهدان على تطور فكر مبدعتهما التي تخرج تدريجيا من الإطار المقيد للأحاسيس الأنثوية . كي تصل إلى عالم أكثر شساعة يهم الوجود ، الكائن البشري و الحياة اليومية .

       فالقصائد التي تضمها المجاميع الشعرية الثلاث (الأسيرة ، الجدار ، العصيان) و المؤلفة من سنة 1952 إلى 1959 ، تعكس ، مثل مرآة ، صورة امرأة و حيدة و متمردة . تحركها أحاسيس أنثوية خالصة ، و تقف ضد القواعد و الأعراف الاجتماعية التقليدية . تهيمن موجة الشغف على الجو الشعري لقصائد فروغ الأولى . وكل هذا الشعب الذي يعبر روحه يُعبر عنه من خلال شبكة من الكلمات تضع في الضوء تعرجات فكرها و أحاسيسها : قلب ، حب ، ليل ، عتمات ، قبلة ، أمل ، أسف ، سجن ، رغبة ، قبر ، موت ، الله ، يد ، نافذة...نعد أيضا الكلمات التي نجدها بشكل متكرر من قصيدة إلى أخرى . تُعبر عن حياة امرأة مسجونة داخل شرنقة الحياة الزوجية ،  لتحاكم وجودها الفارغ و الذي بدون هدف ، الرتيب و غير المفيد . امرأة ، كي تتخلص من خيبة الأمل و السأم ، تلجأ إلى عالم الشعر الساحر . و تعبر ، تحت شكل رباعيات و من خلال تجميع كلمات ، تعابير و صور ، عن مطالب أنثوية . و الأبيات التالية تظهر إلى أي حد الإحساس بأن تكون سجينة يتسلط على الشاعرة :

أفكر و أعرف أنني أبدا

لن أستطيع التحرر من هذا القفص

حتى و إن حررني السجان

فلن تكون لدي القوة كي أطير  (5)





الشعر : نظرة امرأة متشائمة إلى العالم


      انطلاقا من `` ولادة ثانية  ``عثرت ، أخيرا ، على لغتها الخاصة ، التي تتغذى من تجاربها الأنثوية خاصة . في هذه المجموعة تقدم لنا فروغ نوافذ مفتوحة على عوالم أخرى ، و التي تعبر من خلالها عن الأحاسيس التي لم تجربها أبدا داخل عالم الأعراف الأنثوية المحدود . و هي تتبنى بجرأة وجهة نظر متشائمة ، تصف فيها مجتمع زمانها ، و مشاكل الشعب الإيراني في مرحلة وسطى بين التقليد و الحداثة في كلمة واحدة : الحياة اليومية . و كل هذا مستعملة لغة بسيطة و في نفس الوقت مزخرفة . 
 

لعل الحياة    

زقاق طويل ، 

تعبره كل يوم امرأة بسلتها 

لعل الحياة    

حبل 

به يعلق نفسه رجل إلى شجرة 

لعل الحياة   

تلميذ 

يدخل إلى المدرسة 

لعل الحياة هي إشعال سيجارة 

فضاء مخدر بين عناقين ( 6 )

 

    مع ذلك ، فإنه في االعمل الشعري الأخير لفروغ ``لنؤمن بحلول الفصل البارد `` المؤلف من قصائدها التي كتبت خلال الثلاث سنوات الأخيرة من حياتها ، تظهر الولادة الشعرية الجديدة للشاعرة التي بلغت أوجها . حيث تصور الشاعرة وضعيتها في الأبيات التي تفتتح المجموعة :

و أنا
امرأة وحيدة
تقترب من فصل بارد
فهمت الآن وجود الأرض الملوث
و يأس السماء البسيط و حزنها
و ضعف يديها الإسمنتيتين .( 7 )

     كل قصائد هذه المجموعة ليست سوى تطويرا لأفكارها الأولى التي تقدم لنا صورة كائن بشري مجروح و حساس ، يتأمل العالم من خلال نافذة كبيرة . القارئ في ذلك شاهد على تحول جذري في ما يتعلق بالشكل أكثر من المضمون . الشاعرة تظهر أكثر فأكثر ملهمة من طرف الشاعر نيما  Nima   **. فقد غادرت شكل الرباعيات كي تتبنى أسلوبا أكثر حرية ، مرتبط بسعة أفقها و كذلك سعة خيالها .
   إن الشاعرة فروغ لا تبحث عن اتباع مسار جمالي فقط . و لكنها تصبو أكثر لوصف العالم الواقعي بجميع تجلياته المادية و الروحية . و ذلك باستعمال ألفاظ بعيدة عن اللغة الشعرية أحيانا . إنها تتحدث عن الأشياء العادية ، مما يسمح لها بأن تكشف لنا خبايا لا قيمة لها و غير متوقعة من الحياة اليومية .في هذا الاتجاه ، فالألفاظ الرومانسية التي تهيمن على العالم الشعري لدى فروغ في بداية طريقها الأدبي تختفي شيئا فشيئا في مجموعتيها الأخيرتين . الحب ، الليل ، و النافذة تظهر فيهما بطريقة متميزة . لكن المعنى المحتوى في هذه الألفاظ هو موضوع تحول كبير . فهذه الشاعرة الكبيرة أدخلت إلى العالم الشعري ألفاظا جديدة مثل مكنسة ، مطبخ ، حبل غسيل ، شذرات ، طائرة ورقية ، مزهرية ، كلمات متقاطعة ، دخان السيجارة ، اتساع الحب ، الجمعة المضجرة ، كوب ، دولاب ، فسقية ، سبحة زجاج ، أزقة فارغة...كذلك يتحول شعر فروغ إلى شعر ملموس ، حي و أكثر قربا من يومي كل إنسان .
     إن شعر فروغ هو ، تقريبا ، انعكاس للحياة . يمكن أن نقول حسب نيما Nima: هي واحدة من الشعراء المعاصرين العظام . و التي ، بعد نشرها لثلاث مجموعات شعرية ، أحدثت أيضا ولادة جديدة داخل الشعر الفارسي .


----------------------------------------------


إضاءات :


* النص مترجم عن  مجلة طهران التي تصدر باللغة الفرنسية :Revue de Téhéran, Numéro N° 13, décembre 2006
**  نيما هو الشاعر الإيراني نيما يوشيج Nima Youshij ( 1897 / 1959 ) ، اسمه الحقيقي علي اسفندياري  ، أبو الشعر الفارسي و رائده الأكبر . و قد اعتبرت قصيدته الطويلة التي نشرها سنة 1921 بعنوان  ``الأسطورة  ``بمثابة بيان للشعر الإيراني الحديث . فقد كسر الأشكال القديمة و حرر الشعر الإيراني من قيود القصيدة العمودية . ( المترجم )


     هوامش  :
 
[1Revue de Téhéran, Numéro 1, p 55.
[2Hoghoughi, Mohammad, Notre poésie contemporaine 4/ Forough farrokhzad, éd. Negab, Téhéran, 1383, p. 31.
[3Ibid.
[4Hoghoughi, Mohammad, op. Cit., p. 276. " La Fenêtre "
[5Ibid., p. 59.
[6Revue de Téhéran, op. Cit., p. 56.
[7Hoghou